كتب/ د. محمد أحمد محمد

لم تكن حرب صيف 1994م التي شنّها تحالف قوى النظام التقليدية في الجمهورية العربية اليمنية، بوجهه العسكري والديني والقبلي، على أرض الجنوب، مجرد صراعا عسكريا وسياسيا فحسب، بل كانت معركة وجودية بامتياز، إذ إن مشروع ما يسمى بالوحدة أُسس على نوايا مبيتة وتآمرٍ دؤوبٍ لاستلاب الجنوب، أرضاً وشعباً وهوية وتاريخ، في ظل التمترس خلف شعاراتٍ زائفة تتغنى بـ”الوحدة الإسلامية” وواحدية الثورة، والإنسان، والتاريخ، وغيرها من الأوهام والخزعبلات التي سُخِّرت لتبرير العدوان.

مع إشهار هذا المشروع في 22 مايو 1990م، انطلقت مخططات تهميشٍ ممنهج، واستفزازات متتالية، وسلسلة من الاغتيالات التي حصدت أرواح أكثر من مئة وخمسين كادرًا جنوبيًا في عاصمة الاحتلال- صنعاء- على مرأى العالم ومسمعه، أعقب ذلك هجمات عسكرية مباشرة استهدفت الوحدات الجنوبية في عمران وذمار، وتدميرها تدميرا شاملا.

وفي 27 أبريل 1994م، أعلن علي عبدالله صالح في خطاب من ميدان السبعين في صنعاء التعبئة العامة، مُدشنًا بذلك حربًا شاملة على الجنوب تحت شعار “الوحدة أو الموت”. رافق ذلك حملات إعلامية محرضة، وخطابات نارية تُلهب العواطف، في المعسكرات، والمساجد والمدارس والمعاهد، والجامعات والمجالس القبلية، مصحوبة بتحالفٍ مع جماعات دينية متطرفة قاد هذه الجماعات الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر، والشيخ عبدالمجيد الزنداني، صاحب “اللحية المصبوغة بالبارود والحناء”، وتم تجنيدهم بدعوى “الجهاد” ضد “الكفار”، والأفغاني المتطرف صاحب مؤلفات:” كرامات حرب 94″،و”ألف ساعة حرب”-عبدالولي الشميري، إذ سميت أراضي الجمهورية العربية اليمنية بـ “دار الإسلام” والجنوب بـ “دار الكفر”، فتم استباحة كل ما فيها من بشر وشجر وحجر من سناح إلى المهرة كغنيمة حرب.

أبرز ملامح هذا التحالف، الفتوى المشؤومة لـ عبدالوهاب الديلمي، وزير العدل حينها، فقد أجاز قتل الأطفال والنساء وكبار السن إذا تترّس بهم “الكفار”، زاعمًا أن “المنكر الأكبر” المتمثل في شوكة الكفر يبرر “المنكر الأصغر”.

عند تقدم جحافل الغزو إلى صبر بمحافظة لحج، واشتداد الضربات العسكرية على العاصمة عدن وزيادة الضحايا بين أوساط المدنيين، واستهداف المرافق الحيوية مثل المياه والكهرباء وغيرها كان الشهيد عميد ركن/ محمد قاسم عبدالقوي، قائد اللواء الخامس مظلات، يقود صمودًا أسطوريًا لمواجهة مغول العصر لأكثر من ستين يومًا، على الرغم من عدم التكافؤ العددي والمادي، وشراسة المواجهة، سقطت الجبهة، لتستكمل قوى العدوان سيطرتها على العاصمة عدن في 7 يوليو 1994م.

حين بلغني خبر سقوط عدن، شعرت بالحزن العميق كما شعر كل الجنوبيين الأحرار من مرارة الموقف، وأول سؤال تبادر إلى ذهني هو أين سيكون موقع هذا الفارس البطل؟ وفي الوقت نفسه تملكني يقين أن القائد محمد قاسم عبدالقوي قد نال شرف الشهادة، فأخبرت بعض الزملاء، فقالوا لي: من أين وصل لك هذا الخبر؟ – فلا توجد أي وسائل اتصال أو تواصل حينها، فقلت لهم عندي إحساس نابع من معرفتي الشخصية بهذا الرجل، وما يتحلى به من قيم أخلاقية نادرة وشعور بالواجب الوطني، فلا يمكن أن يترك جبهة المعركة هارباً، ولا يمكن أن يستسلم على الإطلاق! لذلك فمن المرجح أن يكون شهيدًا!، وبالفعل تأكد حدسي، فقد ارتقى هذا البطل شهيدًا في معركة الدفاع عن الأرض والكرامة في 24 يونيو 1994 في منطقة صبر م/ لحج.

لقد خلفت تلك الحرب العبثية جراحًا غائرة في وجدان الجنوبيين، وأذكت مشاعر الغضب والكراهية بما أنتجته من سياسات قمعية، وتجريفٍ للهوية، ونهبٍ للثروات.

لم يقبل الجنوبيون السيطرة العسكرية المفروضة بالقوة فاستمرت المقاومة بمختلف الأشكال والوجوه تعبيرا عن الرفض، ومع مرور الوقت، بزغت حركة النضال السلمي كتجربة حضارية، تنقل للعالم رسالة شعب يرفض التهميش والإلحاق في 7/7/2007 ومع ذلك كان مصير من يشارك في تلك المسيرات واحدا من ثلاثة خيارات لا رابع لها إما إن يكون شهيدا أو جريحا أو معتقلا.

ولأن أطماع القوى الشمالية لم تتغير، فقد شهد الجنوب فصلًا جديدًا من العدوان في مارس 2015م، بتحالفٍ “حوثعفاشي، غير أن المقاومة الجنوبية الشرسة تصدت لتلك الجحافل بمساندة ودعم من التحالف العربي، وقدمت آلاف الشهداء حتى تحقق التحرير.

اليوم، نأمل من الإخوة في التحالف العربي أن يكملوا جميلهم، ويساندوا الجنوبيين بالوقوف إلى جانبهم بحزمٍ ضد أي محاولات جديدة للهيمنة اليمنية، أو الإقليمية، أو الدولية، واضعين نصب أعينهم ما قدمه هذا الشعب المكافح الصابر من تضحيات جسام.

ولا يسعنا في هذه الذكرى الخالدة لترجل القائد البطل محمد قاسم عبدالقوي إلا أن نسأل الله عزّ وجلّ أن يسكن الشهيد فردوسه الأعلى، ويجعل من دمائه الطاهرة ودماء الشهداء الأبرار شعلة لا تنطفئ في مسيرة الكرامة والحرية.