العرب اللندنية
لا يتقبل عدد كبير من الشباب في المجتمعات العربية بسهولة الانخراط في المهن الحرفية المختلفة، في حين أن الشهادة الجامعية والتعليم العالي لا يضمنان المستقبل للشباب مع كثافة الباحثين عن الوظائف المرموقة ذات الأجور المرتفعة، لذلك بدأ البعض بالتفكير بشكل أكثر واقعية في التأقلم مع متطلبات سوق العمل.
“أقصر الطرق للحصول على وظائف مرموقة برواتب عالية تضمن العيش الكريم هي الدراسة الجامعية”، مقولة لم تعد صحيحة مع وجود طوابير من الخريجين الجامعيين إما عاطلين عن العمل أو يعملون في مهن أخرى لا علاقة لها بدراستهم ولا تحتاج حتى إلى شهادة جامعية.
وتسيطر على ذهنية غالبية الشباب فكرة أن الخطوة الأولى لتحقيق النجاح في الحياة تكمن في الحصول على شهادة جامعية تخوّلهم دخول سوق العمل، غير أن هذه الفكرة لا تجانب الصحيح وتبدو ظالمة للمهن التي تحتاج طاقات شبابية ولا يمكن تنمية المجتمع بدونها، وظالمة أيضا لطيف واسع من الشباب لم يستطيعوا استكمال دراستهم لعدة أسباب، فهل يتم الحكم عليهم بالفشل والبقاء على هامش المجتمع لعدم حصولهم على شهادة جامعية؟
المهارة بدلا من الشهادة
وفي الواقع يوجد الكثير من الوظائف المربحة التي لا تحتاج تعليما جامعيا، إذ يبحث كثير من أرباب العمل عن المهارة والخبرة بدلاً من التركيز على الشهادة الجامعية. وفي حال لم يكن الشاب شغوفًا بالتعليم، أو لم يتمكّن من إتمامها لأسباب قاهرة، فلديه فرصة للعمل في وظيفة بدخل مرتفع، تحقق الاستقرار المادي الذي يسعى إليه.
الشباب بدأوا بأخذ أسباب الحياة العصرية في تغيير الثقافة السائدة قبل عقود في العيب المهني بين أفراد الأسرة والمجتمع
ورغم أن وظائف المستقبل، تمثّل مصدر قلق بالنسبة إلى كثيرين، مع تتالي صدور دراسات عدة تحدد نوع الوظائف التي ستندثر، وتلك التي ستزدهر، وأوردت تلك الدراسات مجموعة من الوظائف التي لا تحتاج شهادات جامعية، ولكنها ستكون ذات دخلٍ عال، فمثلا سيرتفع الطلب على تركيب وفك وصيانة المعدات والآلات الصناعية، وسيصبح ميكانيكيّو هذه الآلات من أهم العاملين، وسيتلقون رواتب عالية، وهي مهنة مطلوبة في كثير من الدول وبالتالي تفتح آفاق الانتقال من بلد إلى آخر دون صعوبات كبيرة مثل التخصصات العلمية التي تحتاج إجراءات كثيرة ومعادلة الشهادات بين الدولة الأم والدولة المضيفة وتعلم لغة التخصص في البلد الذي سينتقل إليه.
ولا تختلف أهمية المهن اليدوية الأساسية بين بلد وآخر أو بين الشرق والغرب، فهي مطلوبة بالدرجة نفسها وتصبح أكثر قيمة في الدول التي يتجه شبابها إلى التعليم أكثر من أي اختصاص آخر، كما هو حال في الخليج العربي والدول الأوروبية المتقدمة.
في أحد مقالات مايكل سكابينكر في فايننشال تايمز، يقول “كنت في غرفة مليئة بالمحامين عندما سأل أحدهم في أي من الوظائف الأخرى يمكن للأشخاص مواصلة تحصيل أجورهم من خلال فرض رسوم بالساعة، بحيث أنه كلما طالت المدة المستغرقة في تقديم الخدمة، كان على الزبون أن يدفع أكثر؟”.
وأضاف “قلت السباكة، كان هذا من تجربة مؤلمة، بعد أن دفعت أخيرا ليس فقط أجرة الاستدعاء الإلزامية للسباك والساعة الأولى، ولكن أيضا الوقت الذي يقضيه في الطريق إلى المكان المطلوب وكذلك الاصطفاف مع السباك في متجر بيع الأدوات الصحية لشراء مجموعة جديدة من الصنابير، التي تطلبت بعد ذلك وقتا إضافيا لتركيبها”.
وهناك أيضا الكهربائيون الذين يتقاضون أجورا بالساعة، إنما في البلدان التي يحالفنا الحظ فيها بشكل كاف للحصول على كهرباء ومياه جارية موثوقة، وكذلك عمال البناء يحاولون فرض الرسوم باليوم.
مهن لا تتعطل
ويجري الكاتب مقارنة تشير إلى أن المهن العلمية واليدوية تسيران بالتوازي، لا تلغي إحداهما الأخرى وتحتاجان إلى من يتقنهما، وبعضها لم تتمكن الأزمات من التقليل من أهميته حتى في أزمة كورونا، قائلا “إن السباكة أو القانون من المهن الضرورية، لم تتعطل أي منها بشكل كبير. دمرت تطبيقات طلب سيارات الأجرة عن طريق الإنترنت تجارة سيارات الأجرة، وأغلقت الحجوزات عبر الإنترنت كثيرا من وكالات السفر، وحرمت مواقع وسائل الإعلام الاجتماعية المؤسسات الإخبارية من عائدات الإعلانات لديها، بينما لن تشرع أي شركة في عملية استحواذ، أو شراء مبنى، أو نقل مقرها الرئيس، أو إقالة رئيسها التنفيذي دون الحصول على مشورة قانونية واسعة.
كما هي الحال مع المحامين، تظل مهنة السباكة خالية من التعطيل.
السباكة لا تزال مهمة يدوية تتطلب مهارة؛ لم نسمع حتى الآن عن تكنولوجيا يمكنها إصلاح الأنابيب عن بُعد. أو على الأقل لم نسمع عن تكنولوجيا من هذا القبيل، أو عن سباك بسعر ثابت”.
وفي الولايات المتحدة الأميركية تحتل مهنة السباكة المرتبة الثانية ضمن أفضل مهن المقاولات، والمرتبة الخامسة كأفضل مهنة بدون تعليم، وكذلك المرتبة التاسعة كأفضل دخل لوظيفة بدون درجة علمية، وتحتل المرتبة 59 ضمن أفضل 100 مهنة بشكل عام وبمعدل رواتب يتجاوز 4000 دولار شهرياً في دول الخليج العربي وكذلك هو الحال في معظم الدول المتقدمة.
كسر الحاجز
وفي دول عربية مثل السعودية وقفت “ثقافة العيب” من العمل المهني حاجزا أمام العديد من الشباب وحالت لسنوات دون انخراطهم في الأعمال المهنية المختلفة، حيث لا يتقبل عدد كبير من الشباب بسهولة الانخراط في المهن الحرفية المختلفة، خصوصا في الطبقات الوسطى فأسرهم تعتبر التعليم مسألة أساسية لا نقاش فيها، وهي الضمان الوحيد للمستقبل، وانعكست رؤية الأهل للمهن التي لا تحتاج إلى تعليم على أبنائهم، ويفضلون بشكل عام المهن المريحة التي لا تحتاج إلى جهد بدني كبير وما زالوا يتشبثون بنظرة محدودة، ويقللون من أهمية بعض الحرف والمهن باعتبارها لا تليق بالشباب السعودي.
ومع ارتفاع مستوى الوعي والمعرفة في أوساط المجتمع، وكذلك مع التوجه الحكومي الحالي نحو توطين مختلف المهن، بدأت نظرة المجتمع القاصرة تتغير.
أهمية المهن اليدوية الأساسية لبنية المجتمع لا تختلف بين بلد وآخر أو بين الشرق والغرب فهي مطلوبة بالدرجة نفسها
واستطاع الكثير من الشباب والفتيات وضع هذه الثقافة وراء ظهورهم، وانطلقوا يشقون طريقهم في العمل في مختلف مجالات المهن التي تتطلب الأيدي الماهرة في مختلف مناحي الحياة.
وخلال السنوات الأخيرة الماضية، بدأ الشباب في التفكير بأخذ أسباب الحياة العصرية في تغيير نغمة الكلام السائدة قبل عقود في ثقافة العيب المهني بين أفراد الأسرة والمجتمع، وبات البعض ينخرط في الأعمال المهنية بعد افتتاح المعاهد والكليات المهنية المتنوعة والالتحاق بركب العلم والتعليم الفني والمهني من المعدات والآلات الكهربائية والهندسية وعلوم التكنولوجيا والاتصالات بأنواعها.
وبات سهلا أيضا احتراف الشباب لمجال الطبخ والمطاعم، ففي مدينة الخُبر بالمنطقة الشرقية بالسعودية يجتهد طهاة طموحون وموهوبون لإظهار أحدث إبداعاتهم من الأطعمة اللذيذة ومهاراتهم في الطهي لجذب الزبائن.
وقالت الشيف رشا التويجري، وهي صاحبة مطعم ومتخصصة في الأكلات العربية والأميركية، إن الإصلاحات والدعم الحكومي شجعا الشباب السعودي على احتراف الطهي.
وأضافت “الآن نحن في طور توظيف السعوديين، فالسعودي أصبح يطبخ ويقدم الطعام. وفي السنوات المقبلة سنرى الشباب أكثر إقبالا على الطبخ، في ظل القوانين الجديدة والدعم الذي خصصته الدولة، لتشجيع الفتيات والشباب على التخصص في هذه المهنة”.
ومؤخرا اعتمدت وزارة التعليم السعودية مشروع “تطوير مسارات الثانوية العامة والأكاديميات المتخصصة” الذي بدأ تطبيقه اعتباراً من العام الدراسي الحالي ضمن خطة تحسين مخرجات التعليم الأساسية، وتوفير معارف نوعية للمتميزين، وضمان المواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، وزيادة معدلات التوظيف، كما يلبي المشروع احتياجات التنمية الوطنية المستقبلية، ومهارات القرن الحادي والعشرين والثورة الصناعية الرابعة، وتمكين الطلاب من الالتحاق بسوق العمل، من خلال برامج تجسير مهنية وتدريس الطلاب مناهج مع مقررات خاصة في تنمية المهارات.
تعليقات الزوار ( 0 )