حادث نيرة أشرف فتاة جامعة المنصورة هو الحادث الأول في حياتي الذي أتابعه بكامل تفاصيله وبشغف لا يهدأ، كلما شاهدت مقطعًا أو قرأت مقالًا يتناوله أشعر أن هناك عقدة لم تُحلّ بعد، وأنه لاتزال ثمة فجوة لم تمتلئ.ا

الآن وبعد مشاهدتي مقاطع متفرقة لمحاكمة القاتل مرة بعد مرة هدأ شغفي وانحلَّت العقدة وامتلأت الفجوة.

نيرة وقاتلها ضحايا، كلاهما ضحية الآخر وضحية أهله، وضحية التغييب المتعمَّد للخطاب الديني المستقيم المعتدل عن الشارع المصري.

 

في نهاية الأمر هو قاتل مهما حاول التبرير ومهما أحزننا ضياعه، لاتزال دمائها في رقبته ولو أبكانا ذعره وضنك حاله، كان إنسانًا ذو إرادة حرة متفوقًا واعيًا متزنًا، واختار بكامل هذه الإرادة أن تُزهق روحه مقابل دماء كان بالإمكان تفاديها لولا أن سلَّم نفسه -بالبعد عن الله- للشيطان تسليمًا، والصواب حينها كان ألا يبعثر مشاعره على غير مستحقيها وألا يُغدق بماله -حسب قوله- في غير محله، وألا يقترن بفتاة خارج إطار الزواج.

 

إن القصاص من قاتل نيرة حق وحياة للمعتبِرين، لكن السعادة العارمة والتشفي الغاشم والهتاف في الشوارع بعد النطق بالحكم لا يعكس سوى ما يقابل العِبرة المرنوة و الدرس المستفاد، ولا ينمّ إلا عن خلل أصاب النفوس والعقول فأفقد الناس مشاعرها.

لا شيء يدعو للسعادة والتشفي في موت شاب وصبية كما الورود، كان العمر أمامهما مزهرًا منيرًا واستحالت حياتهما وحياة أهليهما فجأة إلى حزن وخزي.

 

حادث بشع لا يفيد فيه سوى ما يستحقه من مهابة وتدبر اللذين سوف يؤديان إلى سؤال واحد : هل سيقطع القصاص وحده سلسال الجرائم المشابهة والذي بدأه محمد عادل بحق نيرة أشرف، أم هناك جانب آخر يحتاج إعادة ضبط؟!

أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟!

القصاص وحده لن يُنهي ما بدأ، عودة الوازع الديني ووعظ الشباب بما يحتاجون لترديده على مسامعهم، حفظ ضوابط الاختلاط، وعدم التهاون في الخوض في فرضية الحجاب، كلها أوامر نفس الدين الذي لم نعرفه إلا ساعة القصاص؛ ولو تحريناها ما كانت هناك جريمة ولا احتجنا للقصاص.

 

ولمن يظن هذا مستحيلًا فقد تحقق قبلًا؛ حين عاش الصحابة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرابة المائة عام دون تطبيق حد السرقة سوى مرات قلائل، مائة عام لم يطبق خلالها حد الزنا ولو لمرة واحدة.

 

رحم الله نيرة، وغفر لقاتلها فَعلته، ورزقه توبة قبل الموت، وجعل من القصاص منه بالإعدام في الدنيا شفيعًا له في الآخرة.

و يبقى أهم ما علينا التدبر فيه أمام حادثة بهذه البشاعة هو أن أقل تفريط في أوامر الله يجرُّ صاحبه جرًّا إلى أكبر الكبائر، وكل ما بوسعنا فعله تجاهها هو إعادة ترتيب أولوياتنا في هذه الحياة على مهلٍ.

 

اقتربوا من أولادكم، احتضنوهم وإن انتأوا بأجسادهم عنكم كل مرة، حاولوا الاقتراب ألف ألف مرة وستنجح إحداهن لا شك، لا تسمحوا لغريب عنكم أن يشارككم المنزل، ولا ترضوا بالعيش مع غرباء على أرض يحوطها جدار واحد.

 

تأرجحوا معهم بين اللين والحزم، فأذيبوا الحواجز التي يحاولون إحاطة أنفسهم بها حتى أضحت أسوارًا شاهقة تحت مسمى “الخصوصية” وإن لم تفلح إذابتها اهدموها.

أطرقوا أبواب غرفهم المُوصَدة إلى أن يسيطر الصداع على رؤوسهم وإن لم يفتحوها لكم بإرادتهم حطموها.

اخترقوا أبواب غرفهم، ولا تملُّوا ولو أعادوا إغلاقها في وجوهكم آلاف المرات واخترقوا معها أبواب قلوبهم وعقولهم.

 

حتى لا تفزعوا بأمراضهم النفسية بعد تخطيها مرحلة القابلية للعلاج، وحتى لا تفاجئوا بانضمامهم لجماعات متطرفة أو يشيبكم إنكارهم لوجود الله، حتى لا تُصابوا بسكتة دماغية نتيجة انتحارهم المباغت ولا تموتوا حسرة إثر جُرمٍ بشع وقع بهم، وحتى لا تعيشوا بعار جريمة ارتكبها “شخص يعيش معكم في البيت ذاته تحت مسمى البُنُوَّة” وهذا هو ملخص علاقتكم به وتفصيلها في آن واحد.

 

أفلتوا أنفسكم من مادية دوامة الحياة التي لن تنتهي، اطرحوا قضية جمع الأموال من أجلهم أرضًا فما ومن أفادت الأموال أمام الأهوال التي تنزل على رؤوسنا كل يوم هولًا تلو هول؟!

اصطحبوا شبابكم – ممن تركوا الصلاة- إلى المسجد في كل صلاة ولو اضطررتم إلى جَرِّهم جَرًّا فما غيرها أقدر على أن “تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ”، تَحرَّوا تربيتهم وتقويمهم فستسألون عن الرعية يا أرباب البيوت أنثى كانت أو ذكرًا، ذكروهم بدينهم ليفهموا الحكمة من غض البصر والنهي عن الجلوس في الطرقات والاختلاط غير المبرر، فسروا لهم وافهموا معهم ضوابط الاختلاط وقوانينه.

 

حدثن فتياتكن في كل وقت عن العفة والحياء والستر، صَلِّين بهن في البيوت جماعة، أحيطوهن بحنانكن ولا تبعدْن بعينيكن عنهن لا بدافع الترصد والتربص وإنما الاحتواء والحماية، ولا تسأموا ترديد “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ”.

ودِّعِوهن على أبواب المنازل بـ”لَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا” ولو كان في الخضوع بالقول مفتاحًا لكل أبواب النجاح المغلقة وتسهيلًا لبلوغ المطامح.

 

اجمعوا الأسرة صباح كل جمعة لقراءة سورة الكهف، وأقضوا بذلك على ظاهرة لحاق ركعتي الجمعة بأرثّ الثياب على عَجَل، رافقوهم إلى التراويح في رمضان حتى تخلو المقاهي فلا يقطع صوت قطع الدومينو روحانية المصلين.

اجتمعوا بهم للدعاء جهرًا قبل غروب شمس يوم عرفة؛ الصقوا على ظهور أبواب منازلكم لوحة خطوا عليها بأديكم حديثه -صلى الله عليه وسلم- ” احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك”.

 

أعيدوا للبيوت بركتها وسكينتها ونور الله فيها حتى يعودوا لقلوب ساكنيها ومنه إلى الشارع والحي والمدينة والدولة بإثرها.

أعلم أننا في زمن مليء بالفتن وعصر مظلم إذا أخرج فيه المرء يده لم يكد يراها، وأقدر أن الأمر جدّ صعب وأن التحديات في طريق تنفيذه تفوق الخيال وأن فيه من المشقة ما في سباحة أمهر السباحين عكس تيار بحر أمواجه عاتية؛ ولكن “وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا”.